كان زوجُها موظفاً صغيراً بالإسكندرية ، عندما رآها وأُعجب بها وتقدَّم لخطبتها ، عاشت معه حياة طبيعية ، وبادلته حباً بحب ، وأنجبت منه البنين والبنات ، المشكلة الوحيدة التي قابلتها في بداية حياتها معه ، ولم تستطع الأيام أن تمحوها من ذاكرتها ، كانت ترقيته في وظيفته ومن ثم انتقاله للقاهرة موطنه الأصلي ، كان مصراً علي اصطحابها ، هي والأطفال للعيش معه بالقاهرة ، بينما كانت هي ترى أن انتزاعها من الإسكندرية ، لا يعني سوى موتها حيَّة ، كانت تعشق مدينتها الساحلية عشقاً لا حدود لـه ، ولا تستطيع البعـد عنها ، قالت له أنا كالسمكة ، إذا خرجت من الماء أموت .. راحت ترغِّبه بالبقاء ورفض الترقية مرَّة ، أو العيش بمفرده أو مع أهله هناك ، والعـودة إليهم في الإجازات مرَّة أخرى .. دون جدوى . وأخيراً لم تجـد بـداً سوى الرضوخ لرغبته ، والانتقال معه إلي القاهرة والعيش فيها .. عندما كانا يتساندان علي بعضهما ، أثناء زيارتهما لمقابر ” أبي قـير ” ، لقراءة الفاتحة علي أرواح الراحلين من أهلها ، لم تصدق أنها عاشت معه بعـيداً عن الإسكندرية نصف قرن من الزمان ، عاشت بعيداً عن الإسكندرية ولم تمتْ ، كـبر الأبناء وتزوجوا ، واستقلوا في مساكن بعيداً عنهما ، وكانوا يزورونهما بين الحـين والآخـر ، وكانت هي لا تكف عن انتهاز الفرص لزيارة الإسكندرية .. جلسا مجهدين أمام مقبرة عائلتها ، قرءا الفاتحة ، وعندما مرَّ عليهما مقرئ ضرير تصطحبه ابنته ، ناديا عليه ليقرأ لهما ما تيسر من القرآن الكريم ، وعندما انتهى نفحاه الكثـير من النقـود .. اسندا ظهريهما علي جـدار المقبرة ، وحـررتْ هي قدميها من حذائها ، ومدّتهما أمامها ، فكَّتْ بعض أزرار طوق جلبابها تستقبل هـواء البحـر، وأعطتْ بدنها حـق راحته ، كانت الخضرة تملأ المكان وتنتشر بين الشواهد ، والأزهار الملونة تتمايل سيقانها في الأحواض الصغيرة علي جانبي المماشي ، والأشجار العالية تتمايل بفعل النسيم الآتي من البحـر ، الممتدة زرقته إلي مالا نهاية ، وكانت الأمواج التي تضرب الشاطئ علي بعـد خطوات ، تنـثر رذاذها المنعـش نحوهما ، تنهـدتْ وقالـتْ : ـ ” الله الله علي هـواء البحـر .. هـواء يـرد الروح ” . عندما عـادا إلي القاهرة ، وماتت هي فيما بعـد بسنوات ، وتجمَّع أبناؤها حول أبيهم ، نفـذوا وصيتها الأخـيرة ، وحملـوا جثمانها إلي الإسكندرية ، ودفنـوها هناك بالقرب من البحـر .. وعندما كان زوجها يأتي من القاهرة إلي الإسكندرية في ذكرى رحيلها ، ويسعى للمقابر لزيارتها وقراءة الفاتحة والترحم علي روحها ، كان يمضي إلي هناك مثقلاً بسنوات الشيخوخة ، يتوكأ علي عصاه ، وكان موقناً بأنه حتماً سيجدها هناك ، مسندةً ظهرها علي حائـط المقبرة ، وقد فكَّتْ أزرار طوق جلبابها ، وأعطتْ بدنُها حق راحته ، وراحتْ تتطلع إلي البحـر .. جلس بجوارها ، وفـكَّ بعض أزرار قميصه يستقبل هـواء البحـر ، حـرر قدميه من حـذائه ومددهما أمامه ، وأعطى بـدنه حـق راحتـه ، وقـال لها : ـ ” الله الله علي هواء البحـر .. هواء يـرد الروح ” . وعندما عـاد إلي القاهرة ، ومات بعـد ذلك ، نفَّـذ أبنـاؤه وصيته ، ودفنـوه بجوارها