كتب:سمير سري .
أكدالدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، بإن مؤتمر لنصرة القدس يهدف إلى دق ناقوس الخطَر وإشعال ما عساه قد خبا وخمد من شُعلَة العَزم والتصميم على ضرورة الصُّمُود أمام العبث الصهيونى الهمَجِى فى القَرن الـ 21
واقترح شيخ الأزهر، أن يُخصَّص عام 2018م ليكون عامًا للقُدس الشريف، تعريفًا به ودعمًا ماديًّا ومعنويًّا للمقدسيين ونشاطًا ثقافيًّا وإعلاميًّا متواصلًا، مؤكدا أن كل احتلال إلى زوال وإن بدا اليوم وكأنه أمر مستحيل إلَّا أن الأيام دول وعاقبة الغاصب معروفة ونهاية الظَّالم وإن طالَ انتظارها مَعْلُومة ومؤكَّدة.
نحن دُعاة سلام لكنَّه السَّلام القائمُ على العدلِ والوفاء بالحقُوقِ التى لا تقبَل بيعًا ولا شراء ولا مُساومة و لا يَعْرِف الذِّلَّة ولا الخنُوع ولا المساس بذرَّةٍ من تُراب الأوطان أو المُقدَّسات.
وتابع: “الحقيقة المُرَّة هى أن المقرَّرات الدِّراسيَّة فى مناهجنا التعليميَّة والتربويَّة فى كل مراحل التعليم عاجزةٌ عن تكوين أى قَدْر من الوعى بالقضيَّة الفلسطينيَّة عامَّة وبالقُدس خاصَّة، ما نفتقده فى مناهج التعليم نفتقده أيضًا فى وسائل الإعلام المختلفة، فى عالمنا العربى والإسلامى فالحديث عن فلسطين وعن القدس لا يكاد يتجاوز خبرًا من الأخبار أو تقريرًا رتيبًا من تقارير المراسلين”.
وفيما يلى نص كلمة الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر، فى مؤتمر الأزهر العالمى لنصرة القدس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن سار على دربه.
فخــامة الرئيس/ محمــود عبــاس – رئيس السُّلْطة الفلسطينية!
الســادة أعـلام المنصــة!
أصحـاب المعالى والسعادة وأصحاب النيافة والفضيلة!
الســـيدات والســــادة!
الحضـــــور الكــــــريم!
السَّلامُ عليكم ورَحْمَة الله وبركَاته.. وأَهْلًا ومَرْحَبًا بحضراتكم فى بلدكم مصر، وفى رحاب الأزهر الشَّريف، ونشكُركم على تفضُّلكم بالحضور وبالمشاركة فى هذا المؤتمر الدولى العام، مؤتمر: «نُصْرَة القُدْس الشَّريف» والمسجِد الأقصى، أُولَى القِبْلَتين وثالِث الحرمَين، ومَسْرَى رَسُول الله مُحمَّد ﷺ.. هذا المؤتمر الذى ينعقد تحت رعاية كريمة ومشكورة من السيِّد الرئيس/ عبد الفتَّاح السيسى – رئيس جمهورية مصر العربية، والذى يرعى –مع مصر وشعبها-قضيَّة فلسطين الحبيبة، وبخاصةٍ ما آلَت إليه -مُؤخَّرًا-من تعقيدات السياسات الجائرة والقرارات غير المسؤولة، فلسيادته ولكل القادة المسؤولين العرب والمسلمين، ولكل شُرفاء العالَم المهمومين بفلسطين وشعبها وبُمقدَّساتها وأرضها خالص الدُّعاء بالتوفيق والسَّداد والقُوَّة والعزم والصَّلابة التى لا تلين إلَّا للحقِّ والعدلِ وإنصاف المستضعفين، وتحيَّة للسيِّد الرَّئيس/ محمود عبَّاس – رئيس السُّلْطَة الفلسطينية، نحييه، ونشد على يديه، وندعوه إلى المزيدِ من الصمود والثبات.
السَّيِّداتُ والسَّادَة!
مُنْذُ أبريل عام 1948م من القرن الماضى والأزهر الشَّريف يَعْقِدُ المؤتمراتِ تِلْوَ المؤتمرات عن فلسطين وعن المسجِد الأقصى والمقدَّسات المسيحيَّة فى القُدْس، وقد تتابعت هذه المؤتمرات حتَّى بلغت أحد عشر مؤتمرًا ما بين 1948 و 1988، وحضرها أساطين العلماء والمفكِّرين المسلمين والمسيحيِّين من أفريقيا وآسيا وأوروبا، وقُدِّمت فيها أبحاث غاية فى الدِّقَّة والعُمق والاستقصاء، وبنَفَسِ المهمُوم الذى لَمْ يَتبقَّ له إلَّا نفثاتٌ تُشْبِه نفثات المصدُور الذى فقد الدَّواء واسْتعصَى عليه الدَّاء.
وكانت هذه المؤتمرات فى كُلِّ مَرَّة تُعبِّر عن رفضِ العُدوان الصُّهيونى على مُقدَّسَات المسلمين والمسيحيِّين واحتِلال بيت المسجد الأقصى ثُم حَرقه وانتهاك حُرماته بالحفريات والأنفاق والمذابح فى سَاحاته، واغتِصَاب الآثار المسيحيَّة وتدميرها، من كنائِس وأديرَة، ومآوى ومقابِر فى القُدْس، وطبرية ويافا وغيرها.
واليَوْم يَدْعُو الأزهَر للمُؤتمر الثَّانى عَشر بعد ثلاثين عامًا من آخِر مُؤتمر انعقَد بشأنِ القضيَّة الفلسطينيَّة والمقدَّسات الإسلاميَّة والمسيحيَّة.. ومُؤتمرنا اليَوْم، رُغم ثرائه الهائل بهذه العُقُول النيِّرَة والضَّمائِر اليَقظة من شَرْقٍ وغَرب، قد لا يُتوَقَّع منه أنْ يضيفَ جديدًا إلى ما قيل وكُتِب من قبل فى «قضيتنا» وما يتعلَّق بأبعادها العلميَّة والتاريخيَّة والسياسيَّة، لكن حسب هذا المؤتمر أنه يَدُق –من جديد- ناقوس الخطَر، ويشعل ما عساه قد خبا وخمد من شُعلَة العَزم والتصميم، وإجماع العرب والمسلمين والمسيحيِّين وعُقلاء الدُّنيا وشُرَفائها – على ضرورة الصُّمُود أمام العبث الصهيونى الهمَجِى فى القَرن الواحِد والعشرين، والذى تدعمه سياسات دولية، ترتعد فرائصها إنْ هى فكَّرت فى الخروج قيدَ أنمُلَةٍ عمَّا يرسمه لها هذا الكيان الصهيونى والسياسات المتصهينة.
والذى أعتقده اعتقادًا جازمًا، هو أنَّ كل احتلال إلى زوال إنْ عاجلًا أو آجلًا، وأنه إنْ بدا اليوم وكأنه أمر مستحيل إلَّا أن الأيام دول، وعاقبة الغاصب معروفة، ونهاية الظَّالم وإن طالَ انتظارها، مَعْلُومة ومؤكَّدة.. واسألوا تاريخ روما فى الشَّرق، واسألوا الفُرس عن تاريخهم فى شرقِ جزيرة العَرب، واسألوا حملات الفرنجة (والتى يسميها الغرب بالصليبيَّة)، والتى طاب لها المقام فى فلسطين مائتى عام، واسألوا الدول التى طالما تباهَت بأنَّ الشَّمْس لا تغرب عن مستعمراتها، واسألوا الاستعمار الأوروبى وهو يحمِل عصاه ويرحل عن المغرب والجزائر وتونس ومصر والشام والعراق والهند وإندونيسيا والصومال.. اسألوا جنوب أفريقيا ونظام التمييز العنصرى وما آل إليه، اسألوا كل هؤلاء لتعلموا -من جديد-أن الزَّوال هو مصير المُعتدين، وأن كل قُوَّة مُتسلِّطة –فيما يقول ابن خلدون- محكومٌ عليها بالانحطاط، وصدق شاعرنا العربى فى قوله:
والليالى – كما عهدت – حُبالى *** مُثقلاتٌ يلدن كل عجيب
فهذه حقيقة كونيَّة وسُنَّة إلهيَّة، والشَّكُّ فيها «زراية بالعِلْم، وزراية بالعَقل، وزراية بأمانة التَّفكير».
إلَّا أن هذه الحقيقة مقرونة بحقيقةٍ أُخرى تسبقها وتُعدُّ لولادتها، وأعنى بها امتلاك القُوَّة التى تُرعِب العُدوان وتَكْسِر أنفه وتُرغِمه أن يعيد حساباته، ويُفكِّر ألف مرَّة قبل أن يُمارس عربدته وطُغيانه واستهتاره واستبداده، وعلم الله أننا –رغم ذلك- دُعاة سلام، لكنَّه السَّلام القائمُ على العدلِ وعلى الاحتِرام، وعلى الوفاء بالحقُوقِ التى لا تقبَل بيعًا ولا شراء ولا مُساومة، سلامٌ لا يَعْرِف الذِّلَّة ولا الخنُوع ولا المساس بذرَّةٍ من تُراب الأوطان أو المُقدَّسات.. سلامٌ تدعمه قُوَّة عِلْم وتعليم واقتصاد وتحكُّم فى الأسواق، وتسليح يُمَكِّنه من ردِّ الصَّاع صاعين وبَتْر أ ى يد تُحاول المساس بشعبِه وأرضِه.
وإذا كان قد كُتِب علينا فى عصرنا هذا أن يعيش بيننا عدو دخيل لا يفهَـم إلَّا لُغـةَ القُـوَّة، فليس لنـا أى عُذر أمام الله وأمام التاريخ فى أن نبقى حوله ضعفاء مستكينين مُتخاذلين، وفى أيدينا – لو شئنا – كل عوامل القوة ومصادرها الماديَّة والبشَريَّة..
وأنا مِمَّن يؤمن بأنَّ الكيان الصهيونى لَيْسَ هو الذى ألحقَ بنا الهزيمة فى 48 أو 67 أو غيرهما من الحروب والمناوشات، وإنما نحن الذين صنعنا هزيمتنا بأيدينا، وبخطأ حساباتنا وقِصَر أنظارنا فى تقدير الأخطار، وتعاملنا بالهزل فى مواطن الجد. وما كان لأمَّة موزَّعة الانتماء، مُمزَّقة الهُويَّة والهوى أن تواجه كيانًا يُقاتِل بعقيدةٍ راسخةٍ، وتحت راية واحدة، فضلًا عن أن تسقط رايته وتكسر شوكته، وصدق الله العظيم: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ {الأنفال: 46}.
السَّـادة الحضُـور!
إنَّنِى على وعى تامٍّ بأنَّ كلماتى هذه قد لا تتمخَّض عن جديد يُذْكَر، وأنَّها مازالت تَدْفُقُ من رَحِم الآلام والأوجاع، وأن تأثيرها لا يَعْدُو تأثير ما قرع أسماعنا وآذاننا، عبر سبعين عامًا، من خطبِ أساطين السياسة والعِلْم والفِكر والإعلام، دون أن يُغيِّر واقِعًا أو يُوقِف شهوة مسعورة فى القضم والابتلاع، أو يُعَبِّر عن دِمَاء سُكِبَت وعن تضحياتٍ ومعاناةٍ وآلامٍ فى السجون والمعتقلات، تَعرَّضَ لها شعب فلسطين وشبابُها ونساؤها وأطفالها، فى مقاومة صامدة لا تلين، وصبر لا ينفد وعزيمة لا ضعف فيها ولا وهن.
نعم! قد يُقال مثل ذلك فى كلمتى هذه أو عن مؤتمرنا هذا، ولكن ما أظنكم تختلفون معى فى أنَّ مؤتمرَ اليوم يختلف كثيرًا عن سابقيه، لأنه ينعقد فى ظروفٍ وملابسات تُشْبِه السُّحُب الدَّاكنة التى تُنْذِر بالسيول الجارفة؛ فقد بدأ العد التنازلى لتقسيم المنطقة وتفتيتها وتجزئتها، وتنصيب الكيان الصهيونى شرطيًّا على المنطقة بأسرها تأتمر بأمره، ولا ترى إلَّا ما يراهُ هو ويُريها إياه، وما على المنطقة إلَّا السَّمْع والطَّاعة، وإن نظرة على ما يُدَبَّر لهذا الوطن على شواطئ الأطلسى، ومداخل البحر الأحمر وشواطئ شرق المتوسط، وامتداداتها، فى اليمن والعراق وسوريا – لجديرة بالتنبيه إلى أنَّ الأمر جَلَل، وأن ترداد الخُطَب واجترار الشِّعَارات لم يعُد يُناسب حجم المكر الذى يُمْكر بنا، وأننا لو واجهناه بما اعتدنا مواجهته به منذ سبعة عقود فلسوف تلعننا الأجيال القادمة، ولسوف يخجَل أحفادنا من أن نكون آباءهم وأجدادهم، وإذا كان لى من أمل أنتظر تحقيقه من لقائنا هذا فهو أن يتمخض هذا المؤتمر عن نتائج عمليَّة غير تقليديَّة، تستثمر فيها الطَّاقات وتنظم الجهود مهما صغرت أو بدت غير ذات شأن.. وأوَّل ذلكم وأهمه هو: إعادة الوعى بالقضيَّة الفلسطينيَّة عامَّة وبالقُدس خاصَّة، فالحقيقة المُرَّة هى أن المقرَّرات الدِّراسيَّة فى مناهجنا التعليميَّة والتربويَّة فى كل مراحل التعليم عاجزةٌ عن تكوين أى قَدْر من الوعى بهذه القضية فى أذهان ملايين الملايين من شباب العرب والمسلمين، فلا يوجد مُقرَّر واحد يخصص للتعريف بخطر القضيَّة، وبتاريخها وبحاضرها وتأثيرها فى مستقبل شبابنا الذى سيتسلَّم راية الدِّفاع عن فلسطين، وهو لا يَكاد يَعْرِف عنها شيئًا ذا بال، وذلك بالمقارنة بشباب المستوطنات الذى تتعهده منذ طفولته مناهج تربويَّة ومُقرَّرات مدرسيَّة وأناشيد وصلوات تُشَكِّل وجدانه العدائى.. وتُغذِّيه بالعُنصرية، وكراهية كل ما هو عربى ومُسْلِم.. وهذا الذى نفتقده فى مناهج التعليم نفتقده أيضًا فى وسائل الإعلام المختلفة، فى عالمنا العربى والإسلامى، فالحديث عن فلسطين وعن القدس لا يكاد يتجاوز خبرًا من الأخبار، أو تقريرًا رتيبًا من تقارير المراسلين، لا يلبث أثره أن يذهب بانقضاء الخبر وذهاب المذيع إلى خبر آخر.
وثانى المقترحات هو: أن القرار الجائر للرئيس الأمريكى والذى رفضه أكثر من ثمان وعشرين ومائة دولة، وأنكرته كل شعوب الأرض المحبة للسلام، يجب أن يُقابَل بتفكير عربى وإسلامى جديد يتمحور حول تأكيد عروبة القدس، وحرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتبعيتها لأصحابها، وأن يتحول هذا التأكيد إلى ثقافة محلية وعالمية تحتشد لها طاقات الإعلام العربى والإسلامى، وما أكثره، وهو الميدان الذى هُزمنا فيه ونجح عدونا فى تسخيره لقضيته.
وعلينا ألَّا نتردَّد فى التعامُل مع قضية القُدس من المنظور الدِّينى: إسلاميًّا كان أو مسيحيًّا.
ومن أعجب العجب أن يُهمَّش البُعد الدينى فى مقاربات القضية الفلسطينية، بينما كل أوراق الكيان الصهيونى أوراق دينية خالصة لا يدارونها، ولا يحسبونها سوءات يتوارون منها، وماذا فى يد هذا الكيان من مبررات فى اغتصاب أرض تنكره، بل تنكره آباءه وأجداده غير التهوس بنصوص وأساطير دينية تبرر العدوان، وتستبيح دماء الناس وأعراضهم وأموالهم! بل ماذا فى يد الصهيونية المسيحية الحديثة التى تقف وراء هذا الكيان وتدعمه وتؤمِّن له كل ما يحلم به، غير تفسيرات دينية زائفة مغشوشة يرفضها آباء الكنيسة وعلماء المسيحية وأحبارها ورهبانها وينكرونها أشد الإنكار.
واقتراحى الذى أُقدِّمُه لحضراتكم لتنظروه ولتروا فيه ما ترون، هو أن يُخصَّص هذا العام عام 2018م ليكون عامًا للقُدس الشريف: تعريفًا به، ودعمًا ماديًّا ومعنويًّا للمقدسيين، ونشاطًا ثقافيًّا وإعلاميًّا متواصلًا، تتعهده المنظَّمات الرسمية كجامعة الدول العربية، ومُنظَّمة التعاون الإسلامى، والمؤسَّسَات الدِّينية والجامعات العربيَّة والإسلاميَّة، ومُنظَّمات المجتمع المدنى وغيرها.
وختام كلمتى نداءٌ للأمَّة أن تتنبَّه نُخَبُها إلى أنها أُمَّة مستهدفة -وبمكر شديد- فى دينها وهويتها ومناهجها التعليمية والتربوية، ووحدة شعوبها وعيشها المشترك، وعلى الأُمَّة أن تعتمد على سواعدها، وأن تستعيد ثقتها فى الله وفى أنفسها وفى قُدراتها، وألَّا تركن إلى وعود الظَّلَمَة القابعين وراء البِحَار مِمَّن قلبوا لنا ظهر المجنّ، وتجاوزوا كل الخطوط الحمراء، ▬وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ♂ {هود: 113} صدق الله العظيم.