بقلم الدكتور محمد إسماعيل حرى من علماء وزارة الأوقاف
لقد أنعم الله علينا بدين كله شفقة ورحمه، وتتجلّى رحمته في مقاصده ونظمه وتعاليمه وآدابه، فهو رحمة في كل شيئ، في السلم والحرب، في الشدة والرخاء، في السعة والضيق، في الإثابة والعقوبة، في الحكم والتنفيذ، ورحمة في كل الأحوال.
ومن أجل المقاصد في الإسلام حفظ النفس، فحمايتها وحرمتها مما أجمع عليه علماء المسلمين.
وقد تعهدها الإسلام بالحماية والرعاية منذ الطفولة، فنعى على الجاهلية وأهلها وأدهم للبنات وأنكر عليهم ذلك قال تعالى: ” وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت”، وجرَّم ترويع الآمنين أو إخافتهم، وحصنها بحد القصاص قال تعالى: ” ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون”، ودعا إلى المحافظة على النفس ورعاية حرمتها، فوضع قاعدة الاعتدال وعدم الإسراف في الطعام والشراب مثلا فقال سبحانه: ” وكلوا واشربوا ولا تسرفوا”، فهي من الطرق الموصلة إلى السلامة من العلل والأسقام.
والإسلام أول دين سماوي وضع نظام الحجر الصحي عند حدوث أوبئة عامة، فقد جاء في الحديث النبوي النهي عن الدخول في أرض أصابها الطاعون، وكذلك النهي عن الخروج منها ففي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم، فاذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه”، ومن البديهي أن قدوم المريض على الأصحاء سبب لنقل المرض إذا شاء الله ذلك، لذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري أيضا: «لا يورد ممرض على مصح” فالحديث من أقوى الدلائل على الحجر الصحي حتى بين الماشية والأنعام فكيف ببني الإنسان، وقد كان لهذا الابتكار الصحي العظيم أثر ملحوظ في حماية البشرية من الموت بالجملة، أما ما كان يحدث في بعض فترات التاريخ من الأوبئة الماحقة التي كانت تفتك بالناس في عواصم الإسلام خلال العهود الأخيرة؛ فما كان ذلك إلا من جراء الغفلة عن الأخذ بهذا النظام الصحي الدقيق، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً على اجتناب الموبوئين بالأمراض المعدية فقال فيما رواه أبو داود والترمذي: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) والغرض من ذلك؛ حماية الصحة أولاً، ولفت أنظار الهيئة الاجتماعية إلى عدم الاستهانة بالأمراض المعدية، ووجوب معالجة المصابين بها.
فقد رسم الإسلام هذه الحماية والعناية بالإنسان للحيلولة دون انتشار المرض بآداب نبوية وتوجيهات صحية وقف الطب الحديث عليها بعد أربع عشر قرنا من الزمان، فهذا حرص من ينظر في تدبيره إلى العالم الإنساني بأسره لا إلى سلامة مدينة واحدة أو سلامة فرد واحد، إذ ليس أصون للعالم من حصر الوباء في مكانه، وليس من حق مدينة أن تنشد السلامة لنفسها أو لأحد من سكانها بتعريض المدن كلها لعدواها.
و الوقاية نوع من العلاج، بل قد تكون خيراً من العلاج نفسه، فبعض الأمراض المعدية لا علاج لها، إلا أن وسائل الوقاية والتطعيم تمنع من انتشارها، كما أن فرض الحجر الصحي وتقييد حرية المصاب بها أو حتى أهل البلدة التي وقع فيها الداء مثل الطاعون ونظائره (منع الدخول إليها ومنع الخروج منها) تؤدي إلى تضييق نطاق انتشار الوباء.
وفي هذه الحالات جميعًا يجب التداوي للأسباب التالية:
(أ) أن عدم التداوي في مثل هذه الحالات التي توفر دواؤها هو نوع من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو أمر منهي عنه قال تعالى: ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” .
(ب) إن الضرر سيتعدى إلى الآخرين من الأهل والمحيطين بالمريض كما يمكن أن يتعدى الضرر إلى المجتمع بأسره. وقد ورد النهي الصريح عن الإضرار بالمسلمين في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجة والدارقطني: “لا ضرر ولا ضرار”.
(ج) إن تمريضه سيشق على أهله أو من يقوم بتمريضه وتلبية حاجاته.
(د) خسارة المجتمع لعضو عامل منتج في المجتمع الإسلامي، وفقدان أيام العمل وإطالة أمد المرض أو انخرام أجله، وفي ذلك كله خسارة على الأمة بصورة عامة وخاصة إذا كان المصاب ممن ينتفع بهم المجتمع.
وأخيرا فيمن التزم الوقاية والحذر، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد: “ليس من رجلٍ يقعُ الطاعون ، فيمكث في بيته صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد”.
وقال فيمن عرض نفسه للهلاك، فيما رواه الترمذي : ” لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه» قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: «يتعرض من البلاء لما لا يطيق”.
حفظ الله البلاد والعباد من كل سوء.