قرأت مجموعة (المتحولون) للكاتبة وفاء عبدالرزاق، فكانت من اول مقطع قصصي فيها عكست صراعا من اجل اثبات الشخصية، وظل هذا الصراع يتصاعد عبرالمقاطع، وبسرد الراوي العليم بالشخصية وتحولاتها، رغم ان هناك غرائبية في الاحداث، كون الشخصية امرأة تعيش الوحدة والغربة، وهذه الوحدة الشديدة الوطأة على نفسها، جعلت من افكارها غرائبية، تحاصرها وتتحول الى اشكال وصور تارة تكون مع الواقع، واخرى صور من الغرابة تفارق الواقع بعيدا، وجاء سردها القصصي ليخبرنا عن قدرة ناجحة في الادارة واحتواء الاحداث، فالسرد علم صاغ مصطلحه تودوروف في كتابه (قواعد الديكاميرون)1969 وعرفه بعلم القصة، بعد ذلك تطور هذا العلم على يد النقاد الاخرين امثال رولان بارت وجيرار جينيت وقريماس وجوليا كريستيفا وغيرهم، فاصبحت له عناصر، كالزمان والمكان والحدث والحوار والسرد وغير ذلك، هي ما نقصده بقولنا عناصر قصصية أو سردية، وتعددت وظائف السرد القصصي، كما يلي الوظيفة السردية ومعناها رواية الاحداث، وتقديم الشخصيات، ووصف الامكنة، وكذا الوظيفة التفسيرية وتعني توضيح ما يحدث للشخصيات وتسليط الضوء عليها، والوظيفة الاخرى تسمى تواصلية وتعني التوجه الى القاريء بالخطاب لاحداث نوع من التواصل، والظيفة الاخيرة تسمى التقيمية وتعني التعليق من قبل السارد على الاحداث من وجهة نظره او موقفه الفكري او الاخلاقي، وللسرد عدة رؤى منها : تسمى “الرؤية من خلف” وتعني معرفة السارد كل شيء عن شخصيات قصته، حتى اعماقها النفسية، و”الرؤية مع” وتعني تساوي السارد مع الشخصيات في المعرفة، اي لايقدم السارد اي تفسير للاحداث قبل ان تصل الشخصية ذاتها اليه، والرؤية من خارج ويكون السارد في هذه الرؤية أقل إدراكا ومعرفة من أي شخصية في القصة، وهو بذلك لايمكنه إلا أن يصف مايرى ويسمح، دون أن يتجاوز ذلك كما هو أبعد، كالحديث عن وعي الشخصيات وأفكارها مثلا، أو التعليق على الأحداث فهو سارد محايد. وبما ان مجموعة (المتحولون) ليست قصص مستقلة، انما جاءت مقاطع سردية تحت عنوان واحد، تعددت فيها الوظائف السردية وكذلك الرؤى، ولاسيما “الرؤية من خلف”، و”الرؤية مع” المتلائمتان مع مجموعة (المتحولون)، حيث الشخصية تعاني الوحدة، فالوحدة هي شعور بالعزلة، وقد يكون هذا الشعور، بسبب نقص العلاقات الحميمة، فتتراكم الهموم وتتحول الى صراعات نفسية، تتولد منها افكار تمتاز بالغرابة والجنون، وقد تلتقي مع جوهر قول “لامرتين” : (ان افكاري تفكر لي)، اي يبقى الانسان ولاسيما ذلك الذي يملك قدرة الابتكار والابداع، الاستغراق في التفكير في صور غرائبية، وكما في شخصية مجموعة الكاتبة وفاء عبدالرزاق وتحولاتها من حالة الى اخرى مدعاة للتفكير فيها، ثم التفكير في هذه الحالات وافرازاتها، ولماذا تكون؟ ولماذا الكاتبة خلقت هذه الاجواء؟ ولماذا تركت الاسئلة تتوالد والاجابات عنها محيرة؟ هل هي قصدية من الكاتبة ام هي راحت تتكور نتيجة ضغوطات الحياة؟، وهكذا لانجد جوابا ملائما مفصلا يلائم الاطارات الغريبة التي خلقتها الكاتبة .. يقول افلاطون في محاورة “إيون” : (ان شعراء الملاحم الممتازين جميعا لاينطقون بكل شعرهم الرائع عن فن، ولكن عن إلهام ووحي إلهي، وكذلك الأمر في حالة الشعراء الغنائيين الممتازين، وكما ان كهنة الآلهة كوبيلا لايرقصون الا اذا فقدو صوابهم، فكذلك الشعراء الغنائيون لاينظمون اشعارهم الجميلة وهم منتبهون … ومادام الانسان يحتفظ بعقله، فانه لايستطيع ان ينظم الشعر او يتنبأ بالغيب ….)2، وحينما نخضع نص قول افلاطون للتحليل، نخرج بنتائج قد لاتختلف كثيرا عن الرؤية الحديثة للابداع الادبي في عصرنا هذا، فالنتاج الادبي لايكون قصدي كاملة، انما هناك الهام من قدرة خفية تحركه، ولا تتحرك هذه القدرة، أو القوة الا في حالة التأمل والاختلاء بالنفس … اذن الادب ليس عملاً ذاتياً محضاً، ولايمكن، من ثم، وضعه خارج الواقع والتاريخ.. وكونه إنتاجاً شخصياً بالدرجة الأولى لا ينأى به عن إشراطات الواقع والتاريخ والمؤتمرات الاجتماعية والإنسانية… والواقعية عموماً. هذا إذا لم ننس أن منتج النص الادبي نفسه يتأثر بما يكوّن شخصيته من عوامل ومحددات وإشراطات: فيزيولوجية واجتماعية واقتصادية ونفسية وأخلاقية وسياسية وأيديولوجية…. أي إن المبدع محكوم بمؤثرات قادمة من خارجه، وعى ذلك أو لم يع. هذا الامر حدث في مجموعة (المتحولون)، واخذ ابعادا غرائبية سريالية في اكثر الاحيان .. تقول الكاتبة في المقطع 1 : (في خضم استغرابها ورتابة العزف، تجسدت ربابة في المرآة، شيئا فشيئا تحولت إلى آلة عود، تحولت إلى كيتار، ثم تلاشت الأشكال، والصوت، والأصابع، لكن بقي إصبع واحد مشيرا إلى إصبعها الموجه إلى ذات الأصبع في المرآة.).. اذن كان حديثا مرآتيا وتحولات خارج الواقع، واستمرت رؤى الشخصية تتحول من مقطع الى اخر، وكأن الكاتبة تؤسس لخلق حالة لافتة في رفض الواقع وضغوطاته، واجتراح بدائل له، لكن تلك البدائل قفزت على الواقع، وراحت تعشش في عوالم سريالية، كما في قولها : (عشقت،، استعذبت العشق،استشرى مرض في اللوحة، ودار هو الآخر حول اللون الأحمر. فكسى محيط الدائرة بعض الصفرة الخفيفة، من جانب، بينما باقي المحيط استفحلت عليه صفرة داكنة)، فهنا عكست صراع الالوان من على لوحتها، دلالة على قدرة في السيطرة على اللوحة التي امامها، بعيدا عن صراعات العالم المضطرمة، ومثالا اخرا قولها : (في الصباح، كان الزمن ذاته، بشكله المعهود، لم يتغير، لم يتحول، ما تحول هو اللون.. في البر، في البحر، في الأبنية العالية والدور البسيطة والقصور. بخطى متثاقلة اقتربت من السرير..)، وفي رؤيتها ان الزمن ذاته ومسار الدهر هو نفسه، المشكلة تكمن في الوان الصراع، والدليل في نهاية المقطع، الذي يقول : (بخطى متثاقلة اقتربت من السرير..)، اي انها ترسم مواقف الحياة وصراعاتها من وحي وحدتها وعزلتها .. وفي مقطع اخر، وهي خارج غرفتها تقول : (صمتَت أصوات الزهور والأشجار، اين عناقيد الورد الدامع؟ أين زهرة الكاميليا، زهور الكاردينيا… مدت يدها لتلمس الأرض، تحسست بقايا النساء المعطرات، مجرد قش، تحول إلى رماد.)، ومن هنا بدأت ترسم مسار توالد الاسئلة، تلك التي تتوالد في عوالم تخلقها الشخصية، ثم تبدأ تتساءل حولها؟؟ جعلت هذه الاسئلة المتلقي في حيرة من امرها، فهي تبدو باحداثها سريالية خارج منظومة الواقع، الا انها تحمل صور محاكاة لاوجاع ذلك الواقع المؤلم ومن طرف خفي … لذا بدت الشخصية (ضجرة،التكرار ذاته، سطوة جسدها المنهك على الوسائد والسرير، حقيبتها المرمية على الأريكة، كتبها الثقيلة الوزن ملت هي الأخرى من تصفح أصابعها وتحديد بعض الملاحظات بالقلم العريض)، وكأني بالكاتبة ترسم مسار مختبر شخصيتها في غرفة، لاشك هي مكان ضيق، لكنه يتحمل صراعات الكون كله، فهي (كانت يوما تستشف الوجع اليومي وتخلق منه إرادة وتحدٍ، يمرون، يمرون، يمرون, عابرون يمرون، لا أحد كما الله ساعة المغفرة. الناس في المدينة لا ظل لهم وقت تحوَل الشمس إلى حقيقة، ظلالهم تتحرك في الليل، وكلما أولعت الحياة نورها ليلا، كلما اختفى الجميع.)، لماذا ابقت الكاتبة وفاء عبدالرزاق بطلة القصة، تعيش تلك الوحدة القاتلة، ومن خلال هذه الوحدة ترسم لوحات صراعات العالم بطريقة سريالية، مبتعدة قدر الامكان عن الواقع؟؟ بحيث جعلتها (امرأة مرمية أحشاؤها بين المدن أن تتقبل هذا الوضع المرهون بزنزانة الحياة الوحشية!! هاهي الحياة بوحشيتها جمعت كل مدنها وأخفتها في قفل بلا مفتاح، مجرد قفل لامرأة.)، الحقيقة هذا المعطى المهم، يعكس قدرة الكاتبة في خلق صوت معارض لصراعات الكون الغير مجدية، خالقة تساؤلات .. (السَّعادة طائر، يغني للزهور، في الفضاء، قلوب ترفرف، لاتخاف النسمة، ولا النسمة تخشى أن تفضح زهوها المعطّر. كي نكون تلك النسمة، لابد ألاَّ نخاف من أنفسنا ومن الآخرين،لأننا بكل بساطة، نسائم عطرة.)، وفاء عبدالرزاق تحاول محاولات في حرف مسار الصراع السلبي الى صراع ايجابي، ثم تستمر في صور مقلوبة، ( ركنت إلى زهرة النرجس في حديقة الدار، فاهتزت النسمة طربا لحضورها، واهتز ذيل كلبها مؤيدا نسمات راقصة. كم شعرت بدفء الدثار الأزرق, حين لسعتها برودة خفيفة مرت على جسدها بعد تحرشها بالستارة المشجَّرة. كانت الستارة كأنثى مرت عليها أصابع عاشق، فغمرتها غزلا واهتزازا. تنهدت لحظتها الراهنة, وغفت على ساعدها مثل طفل، بينما الكلب اتخذ جانب الفراش الأيمن، ليشم رائحة قلبها النابض، وغفا هو الآخر.)، اي انها هربت من عالمها الانسي الى عالم الحيوان وتآلفت معه وتآلف معها، وكل هذا يعكس لنا جهدها في تكوين موقف محدد، استمرت تحيل ذهنية المتلقي له، فرغم انه، (أنهكتها الكيانات الخطأ،والانكسارات الشاذة،الألم المسموع والصامت.أنهك مستطاعها، وما كان عليها ألاَّ تكون هي.)، واعتقد ان بيت القصيد هنا اعلانها بهذه العبارة .. (وما كان عليها ألاَّ تكون هي.)، بعد ان يأست من هذا الصراع المستمر الغير مجدي .. (لا أصابع تصير أجنحة لتكتب، أو ترسم، ولا ألسنة تنطق بالحب.) وعليه لابد ان تكون هي لاغيرها، لتعلن العصيان الانساني … هوامش : 1ـ مجموعة (المتحولون) القصصية للكاتبة وفاء عبدالرزاق 2ـ كتاب (في الأدب الفلسفي) / الدكتور محمد شفيق شيّا / مؤسسة نوفل ـ بيروت ـ لبنان ط1لسنة 1980 ص