( مزاليج الصمت ) .. هذا العنوان الغير مباشر لديوان غير مباشر، لشاعر غير مباشر ، هو الشاعر محمد سليم الديب ، يحتوي الديوان على جرعات قوية من لغة ، ولوحات من صور ومقطوعات من موسيقى ، مع ممارسته الرائعة للرمزية أحيانا كثيرة ، وكما أنه طاف في أرجاء الخيال ، فما أجمل هذه الألفاظ والتراكيب والخيال والموسيقى التي استحضرها في قصائده ، يضاف من قبل ومن بعد المواقف الإنسانية واستدعاء الماضي ، لتتحقق جماليات النصوص ووظائفها داخل الديوان . أما عن بناء قصيدته التفعيلية ، فهي في بناء متماسك اللغة ، ذات وحدة موضوعية ، ونفسية دالة عن الحالة الشعورية لدي الشاعر .وكما ذكرت في استهلال هذه الكلمة الموجزة في ديوان ( مزاليج الصمت ) للشاعر محمد الديب ، أنه مارس بجدارة التصوير الفني في رسم لوحات تعبيرية ، زادت تألق القصائد .وأسوق في هذا الصدد قصيدة تحمل أغلب الملامح التي ذكرته في هذا المقام : بــــوح
( 1 )
إِعْزِفْ أَلحَانَكَ ،
عِنْدَ الشَّاطِئِ ،
تَسْمَعُهَا الجِنِّيـَّاتُ ،
فَتَرْقُصُ ،
شَوْقًا ،
وَهُيَامًا ،
تَفْتَحُ أَبْوَابَ الحُلْمِ ،
وَتَبْحَثُ فِيهِ ،
– هَلْ كُنْتَ تُخَبِّئُ ،
أَسْرَارَكَ ،
لَم تَعْرِفْ ،
كَيْفَ تَكُونُ الوَثْبةُ ،
دَاخِلَ خَيْلٍ ،
يَنْظُرُ ،
فِى مِرْآةِ الْقَلْبِ ؟
فَتَرْنُو مُتَّجِهًا ،
نَحْوَ الشَّمْسِ ،
تَشُدُّ شُعَاعًا ،
تَغْزِلُهُ ثَوْبًا ،
أُسْطُورِيًّا ،
تَلْبسهُ ،
مُرْتَدًّا ،
فِى قَلْبِ الذِّكْرَى ،
نُورًا ،
يَكْسِرُ ،
كُلَّ قُيُودِ الْعُرْفِ ،
يُحطِّمُ تَجْوِيفَ الصَّدْرِ ،
يُغَنِّى ،
فِى جَنَبَاتِ الحُلْمِ ،
فَتُصْبحُ عَرَّافًا ،
يَغْزُو ،
أَلْحَانَ بِدَايَاتِ التَّكْوِينِ ،
تَرَانِيمَ ،
فتَسْمَعُهَا أَعْضَاؤُكَ ،
تَسْكَرُ ،
أَنْتَ الْآنَ ،
تُصَارعُ ،
أَمْوَاجًا ،
فِى بَحْرِ الشَّوْقِ ،
سَتُوقِظُ أَيَّامًا ،
كَانَتْ نَائِمَةً ،
فِى حِضْنِ الْماضِى ،
أَمْ كُنْتَ تُخَبِّؤُهَا ،
فَوْقَ قِطَارِ الزَّمَنِ السَّائِرِ ،
نَحْوَ الشَّمْس .
تَعِبٌ أَنْتَ ،
وَلَا تَمْلِكُ إِلَّا الْهَمْس .
( 2 )
تُشَكِّلُ ،
صَلْصَالَ الْوَقْتِ،
تَماثِيلًا ،
تَتَمايَلُ،
خَلْفَ الْأَيَّامِ ،
فَتَرْقُصُ ،
مَزْهُوًّا ،
بِحُرُوفِكَ ،
تَلْطِمُ ،
وَجْهَ الظُّلْمَةِ ،
تَرْحَلُ ،
فِى جِلْبَابِ سَمَاءٍ ،
تَحْوِى ،
صَفَحَاتِ كِتَابِ الضَّوْءِ ،
تَسِيرُ وَحِيدًا ،
فَوْقَ الشَّاطِئِ ،
تَحْمِلُ حُلْمًا ،
فِى صَدْرِكَ ،
مُلْتَاعًا ،
تَصْرُخُ ،
يَا الله ،
خَفِّفْ ،
رَقْصَ الزَّمَنِ الْفَائِتِ ،
فَوْقَ جِرَاحِ الْقَلْب .
( 3 )
تَتَسَلَّقُ ،
فَوْقَ حِبَالِ الضَّوْءِ ،
فَرَاشَاتُ الْبَوْحِ ،
تُهَيِّئُ أَوْرِدَتِى ،
لِحُرُوفٍ ،
ثَكْلَى ،
تَسْكُنُهَا ،
وَمَرَاكِبُ عِشْقِكَ ،
تَطْفُو ،
فَوْقَ دِمَائِكَ ،
خَائِفَةً ،
حَتَّى شُرْيَانِ الْقَلْبِ ،
فَتبْنى ،
مُسْتَعْمَرَةَ الْأَحْلَامِ ،
بُيُوتًا ،
تَجْمَعُهَا ،
مِنْ لُغَةٍ ،
تَتَأَلَّقُ ،
مِنْ بَوْحٍ ،
كَانَ يُرَتِّلُهَا ،
فِى قَلْبِ الَّليْلِ ،
تَرَانِيمَ ،
فتَعْزِفُهَا ،
كَيْ تُؤْنِسَ ،
جُدْرَانَ الْقَلْبِ ،
فَتنْدَمُ ،
أَحْيَانًا ،
هَلْ وَجَبَ التَّأْكِيدُ ،
عَلَى حَالٍ ،
مَصْدَرُهَا ،
قَلَقٌ ،
يُولَدُ ،
مِنْ كُلِّ حُرُوفِ الْعِلَّةِ ؟
أَنْتَ الآنَ ،
بِسِدْرَةِ أَحْلَامِكَ ،
تَسْمَعُ صَوْتًا ،
يَخْرُجُ ،
مِنْ قَلْبِ الْحَضْرَةِ ،
كُنْ أَنْتَ ،
وَلَا تَسْعَ ،
وراءَ الْوَهْمِ ،
بِكَأْسٍ ،
عَبَّأَهَا الزَّمَنُ الْفَائِتُ ،
مِنْ أَخْبَارِكَ ،
مِنْ حَيْثُ يَكُونُ الْعِشْقُ ،
تَماثِيلًا ،
فِى مِحْرَابِكَ ،
أَرْمِي أَحْزَانَ الْكَوْنِ ،
عَلَى شَاطِئهَا ،
وَأَدُسُّ الرَّغْبَةَ ،
فِى أَعْضَائِى ،
أَتَخطَّى ،
دَمَوِيَّةَ مَارِى ،
وَنِقْمَةَ إِيزِيسْ ..
أَعْزِفُ ،
بَرْقِيَّةَ عِشْقٍ ،
أُرْسِلُهَا ،
فِى النَّاحِيةِ الْأُخْرَى ،
عِنْدَ الشَّاطِئِ ،
حَيثُ بُكَاءِ الْأَشْجَارِ ،
عَلَى قَمَرٍ ،
لَا يَسْطَعُ ،
إِلَّا فَوْقَ جِرَاحِكَ ،
كُنْ أَنْتَ ،
تَذَكَّرْ ،
كَمْ كَانَ الْجَدُّ حَسِيرًا ،
بِمَرَايَاكَ ،
وَكَمْ كَانَ الطَّمْىُ ،
حَزِينًا ،
فِى قَلْبِ النِّيلِ ،
تَرَانِيمًا ،
تَصْرُخُ فِيكَ ،
وَتَسْتَلُّ ،
سُيُوفَ الْبَوْحِ ،
حَيَاةً ،
مِنْ غِمْدِ الصَّمْتِ ،
وَلَا تَغْمِدُهَا ،
فَحُمَاةُ الْعُهْرِ ،
وُشَاةٌ ،
أَكَلُوا ،
خُبْزَ الله ،
دَمًــا ،
تَتوَارَى،
خَلْفَ الشَّاطِئِ ،
تَسْمَعُ ،
مُوسِيقَاكَ ،
وَصَوْتُ الحَضْرَةِ ،
فىِ صَدْرِكَ ،
يَأْسِرُ أَعْضَاءَكَ ،
عُضْوًا ،
عُضْوًا ،
فَتُهَمْهِمُ ،
يَـــــا الله .
ــ
هذا البوح الذي حمل كل ألوان الفضفضة ، في وحدة النفس التواقة إلى النور / الشمس ، يفتح أبواب الحلم ، يغزل هذا الثوب الأسطوري ، ليلج فيه في قلب الذكرى ، ليتخلص من كل الأطر التي تقيده ، فيسير وحيدا يحمل حلمه ، يناجي الله ، إيمانا واعترافا بوجوده ، فهو القادر أن يخفف مصائت الزمن وأثقاله ، وتطل الأحلام تترى ، لتحمل أسطورة أيزيس وأوزوريس تلك المأساة ، القابعة في عين العشق ، ويغوص البوح في عمق الأمس واليوم ، وبكاء الأشجار على قمر لا يسطع ، كم كان الجَدُّ حسيراً / كم كان الطمىُ حزيناً / في قلب النيل ، ويفصح عن كونه فوق أرض الله ، حيث النيل هذا الساقي الوفي لكل الموجودات ، فهو مصري عربي .. كم كان البوح فضفاص النوايا ، حيث لا يقدر على حمل المسئولية الوطنية وحده ، ومواجهة حماة العهر ووشاة الأكاذيب والفسدة وحده ، ولن يجد المنقذ من كل هذا سوى الله ، فينادي في ختام بوحه يا الله .
الديوان يحتاج صبر الباحث وقدرة أدواته لكي ، يفتح مزاليج صمته ، ويأنس وحدته التي تنضح بالحزن والأسف على واقع قد تردى ولوثه الفساد ، ويلف معه في ثنايا الأحلام والأمال والأمنيات ، لذاتٍ أتعبتها حوادث الزمن وناسه ، ويستشعر شوقه إلى كل جميل .. المرأة والماء والوجه الحسن ..!!
فقط أقول للشاعر محمد الديب مرحبا بك في صف كبار الشعراء ، وأنا لا أمنحك ما لم أملكه ، ولكني أملك كلمتي التي لا أمتلك سواها فهي سيفي ، وهي شرفي ، وهي ما تبقى لي بعد حطام الأصدقاء .